
د/ عبدالغني جغمان
استشاري تنمية مستدامة
__________________________________
إن أوجه الاستثمار وسبل تمويل الاستثمارات لتحسين الأمن الغذائي والاستدامة قد تكون من أكبر التحديات التي تواجه صناع السياسات.
لأن قوائم احتياجات الاستثمار طويلة وتتراوح بين مستوى الحقل إلى البنية التحتية إلى مرافق التخزين إلى الأسواق. يعد الأمن الغذائي من الأهداف المعلنة في بلدان العالم كافةً من الناحية العملية، وقد أثيرت هذه المسألة وتم مناقشتها على عدة مستويات. ورغم الجهود السابقة، فإن هاتين القضيتين: الأمن الغذائي والاستدامة، لاتزال مهملة بشكل أو بآخر، وخاصة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. حيث لا يستلزم الأمر من هذه البلدان فقط إنتاج كميات أكبر من الغذاء للتكيف بسرعة مع الطلب المتزايد بل يجب العمل على تحسين سلاسل القيمة الغذائية وتطويرها.
نرى أن التحدي الرئيس في النظم الغذائية التي تشهد تطوراً سريعاً اليوم، هو سد الهوة الناجمة عن تدهور خدمات الإرشاد والتوجيه التي يقدمها القطاع العام. الامر الذي يستوجب القيام بتحليل الوضع القائم على المستوى الوطني بشكل عاجل لتحديد الاختلالات وتوجيه التدخلات وتحديد الإجراءات وتوجيه الاستراتيجيات التنموية على المستوى الوطني لتحقيق الأمن الغذائي. كما أن إعادة الاستثمار في توليد المعرفة أولوية عاجلة، ليتمكن المزارعون وأصحاب المشاريع الصغيرة من التكيف مع تغير الطلب وتحسين وتنمية أعمالهم، ولربط صغار المزارعين وأصحاب المشاريع الصغيرة بمصادر المعرفة، الذي قد تنعكس من خلال فهم سلاسل القيمة الغذائية وعناصرها ويساعد المعنيين على تقديم الحوافز على طول سلاسل القيمة لتعزيز الاستخدام المستدام للموارد الطبيعية والاستثمار في البحوث ونقل التكنولوجيا.
أشرنا في العدد السابق إلى أهمية ودور سلاسل القيمة المضافة الغذائية في تحليل إجراءات السياسات المتبعة لجميع عناصر مجموعة السلسلة الغذائية الزراعية، وهو ما لا يمكن تحقيقه بواسطة الطرق التحليلية التقليدية؛ والحاجة إلى أدوات مبتكرة جديدة لزيادة الإنتاجية منها: تشجيع صغار المنتجين لزيادة الدخل والنفاذ إلى الأسواق، تحسين كفاءة سلاسل التوزيع في الوصول إلى الأسر المحتاجة، توسيع التمويل والمشاركة، وغيرها من المستهدفات التي يتم تناولها في سلسلة القيمة المضافة الغذائية الزراعية.
مواصلة لما تم مناقشته في العدد السابق، أشرنا إلى أن سلاسل القيمة الغذائية، تتكون من عدة سلاسل يجب التركيز عليها لتطوير وتحسين القيمة المضافة للإنتاج الغذائي الزراعي ابتداء من سلسلة القيمة الأساسية (الإنتاج، التجميع، التجهيز والتوزيع) يليها سلسلة القيمة الموسعة التي تضم كل الأعمال والمدخلات التي تساعد المنتجين والمزارعين على تطوير وتحسين جودة منتجاتهم. الجميع يعمل في ظل بيئة تمكينية يؤثر طابعها بشكل كبير على أدائهم، هذه البيئة تتكون من عناصر اجتماعية وثقافية (الدين، والتاريخ، واللغة، إلخ.)، وعناصر تنظيمية (الوزارات، والمدارس ومنشآت البحوث والتنمية، وجمعيات السلع الوطنية، إلخ.)، وعناصر مؤسسية (السياسات، والقوانين، والتقاليد وغيرها من القواعد المكرسة اجتماعياً، والقواعد القائمة على القطاع الخاص مثل المعايير الطوعية، إلخ.) وعناصر متصلة بالبنية التحتية (الطرقات، والأسواق، وتكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، والشبكات الكهربائية، وهيكليات الري العامة الأساسية، إلخ.). وأمّا العناصر الطبيعية فتشمل مصادر المياه العذبة، والتربة، والتنوّع البيولوجي، والمناخ وما إليه.
إن تنمية سلاسل القيمة الغذائية وضمان استدامتها مفهومان قد يحدث بينهما تداخل وقد يجري تفسيرهما بطريقة مختلفة.
لذا سنتناول في هذا المقال المبادئ الرئيسة لاستدامة سلسلة القيمة الغذائية من أجل تسهيل المعلومة و تحديد المفاهيم وطريقة تناسبها مع بعضها وبما يسهم في استخدامها بشكل أكثر فعالية.
مبادئ عملية سلسلة القيمة الغذائية المستدامة
تتبع عملية وضع سلسلة القيمة الغذائية المستدامة نهجاً شمولياً يحدّد الأسباب المترابطة لضمان استفادة الفاعلين في سلسلة القيمة من الفرص المتوفرة.
تدعو هذه العملية إلى اعتماد نهج خاص إزاء تحليل الوضع للمشروع الزراعي أو الغذائي، ووضع استراتيجيات وخطط دعم، وتقييم الأثر الإنمائي. هذه المبادئ الرئيسة تتكون من عشرة مبادئ مترابطة تم دمجها في مخطط يوضح العلاقة فيما بينها (الجدول). فنهج الاستدامة لا يقوم على مجرد وضع قوائم طويلة من القيود التي غالباً ما تكون معروفة جيداً ثم على التوصية بسبل معالجتها الواحد تلو الآخر. بل إن عملية وضع سلسلة القيمة الغذائية المستدامة تتبع نهجاً شمولياً يحدّد الأسباب المترابطة لعدم استفادة الفاعلين في سلسلة القيمة من الفرص المتوفرة.
تٌجمع المبادئ العشرة في ثلاث مراحل من دورة إنمائية متواصلة. ابتداء من المرحلة الأولى، وهي مرحلة قياس الأداء، يجري تقييم سلسلة القيمة الغذائية من حيث النتائج الاقتصادية والاجتماعية والبيئية التي تحققها حالياً بالنسبة إلى رؤية تتعلق بما يمكن أن تحققه في المستقبل.
1. الاستدامة الاقتصادية (مدى ربحية المشروع)
2. الاستدامة الاجتماعية (مدى شمولية المشروع)
3. الاستدامة البيئية (الأثر البيئي للمشروع)
إن إطار سلسلة القيمة الغذائية واضح فيما يخصّ معنى اﻻستدامة. في عملية وضع سلاسل القيمة الغذائية المستدامة، يجري تطبيق نهج شامل "ثلاثي الأسس" يقرّ بالأبعاد الرئيسة الثلاثة للاستدامة: الاقتصادية، والاجتماعية والبيئية، في البعد الاقتصادي تُعد سلسلة القيمة مستدامة إذا كانت الأنشطة التي يقوم بها كل صاحب شأن قابلة للاستمرار، أو قابلة للتحقيق من الناحية الضريبية بالنسبة إلى الخدمات العامة. وفي البعد الاجتماعي، تعني الاستدامة النتائج المقبولة اجتماعياً وثقافياً من حيث توزيع المنافع والتكاليف المتصلة بتوليد القيمة المضافة. وأمّا في البعد البيئي، فتتحدد الاستدامة بقدرة الفاعلين في سلسلة القيمة على توليد آثار إيجابية وحيادية على البيئة الطبيعية من جراء أنشطتهم. ومن حيث تعريفها، تشكل الاستدامة مفهوماً ديناميكياً نظراً إلى أنه دوري ومعتمد على المسار: فاستدامة الأداء في سلسلة القيمة في فترة معيّنة تؤثر بقوة على أدائها في الفترة التالية. وينبغي أن تستهدف برامج وضع سلسلة القيمة الغذائية المستدامة سلاسل القيمة التي تعاني الفجوات الأكبر بين أدائها الفعلي وأدائها الممكن.
وأمّا في المرحلة الثانية، مرحلة فهم الأداء، فتُعرض الحوافز الأساسية للأداء (أو أسباب الأداء الناقص) من خلال الأخذ في الاعتبار ثلاثة جوانب رئيسة:
1. كيفية ترابط الفاعلين في سلسلة القيمة وأنشطتهم ببعض وبالبيئة الاقتصادية والاجتماعية والطبيعية (المبدأ ٤)؛
2. العوامل التي توجه وتضبط تصرفات أصحاب الشأن الفرديين في تفاعلهم في إطار الأعمال والسياسات العامة (المبدأ ٥)؛
3. كيفية تحديد القيمة ومدى تأثرها بالأسواق النهائية (المبدأ ٦). نشير هنا إلى أن دعم المزارع الصغيرة أو المزارع الأسرية الصغيرة مهم جدا ولا يجب أن توضع في مواجهة الزراعة الكبيرة الحجم أو التجارية كونها تعد ازدواجية غير صحيحة حيث أثبتت عدة دول (كما في دولة البيرو) أن المزارع الصغيرة قادرة على المنافسة من حيث تكاليف الإنتاج مقارنة بالمزارع التجارية الكبيرة ولكنها تحرم بسبب عناصر البيئة المؤسساتية، لذا يجب إعادة النظر في السياسات الزراعية وتطوير سلاسل القيمة الغذائية بما يسمح بتعزيز المشاريع و المزارع الصغيرة والتي تعد لبنة أساسية من لبنات بناء اقتصاد وطني مزدهر ومستدام. وتتبع المرحلة الثالثة، تحسين الأداء، تواتراً منطقياً من الإجراءات المستندة إلى التحليل الذي أُجري في المرحلة الثانية: أي تحديد رؤية محددة وواقعية مرفقةً باستراتيجية أساسية لوضع سلسلة القيمة الغذائية يتفق عليهما أصحاب الشأن (المبدأ ٧)؛ واختيار الأنشطة المحسِنة والمطورة وضمان عقد الشراكات المتعددة الأطراف التي تدعم هذه الاستراتيجية، والتي بإمكانها أن تحقق فعلاً درجة الأثر المتوخى (المبادئ ٨، و٩ و ١٠).
وهنا يأتي دور مشاركة المعرفة وتقديمها بما يسهم في نشر الوعي وتقديم الحلول وتجارب الدول الأخرى أو مشاركة تجارب ناجحة على المستوى الوطني كما هو في مقال مشروع ١٠٠ أسرة منتجة في اليمن في هذا العدد من مجلتنا (اكتفاء). هذه المعرفة تعمل على تطوير الأداء وتقييم الأفكار وتوجيهها في الطريق السليم. نخلص الى أن عملية سلسلة القيمة الغذائية المستدامة توفر إطاراً مرناً للتصدي للعديد من التحديات التي تواجه تنمية النظام الغذائي. كما أن سوء فهم طابعها الأساسي قد يؤدي بسهولة إلى توليد أثر محدود أو غير مستدام. وحتى حين يفهم الممارسون مبادئ هذه العملية ويطبقونها بشكل صارم، لا يستطيع النهج وحده أن يحلّ جميع المشاكل في النظام الغذائي. فسلاسل القيمة الغذائية غير قادرة على توفير الدخل للجميع، وعلى إدراج المقايضات على مستوى النظام الغذائي، كما لا يمكنها أن تتلافى دائماً جميع الآثار السلبية على جميع أصحاب الشأن وكل العناصر في البيئة. لذا، من الضروري وضع برامج عامة واستراتيجيات تنمية وطنية لمواجهة هذه الحدود. حيث سيتم تمويل هذه البرامج والاستراتيجيات إلى حدّ بعيد من خلال عائدات الضرائب وتوسع الوعاء الضريبي الذي يتولّد من مدخلات جديدة في سلاسل القيمة الغذائية، مما يضع عملية وضع سلسلة القيمة بصورة عامة، وعملية وضع سلاسل القيمة الغذائية المستدامة بصورة خاصة، في قلب أي استراتيجية ترمي إلى الحدّ من الفقر والجوع في الأجل الطويل.
يعد الأمن الغذائي من الأهداف المعلنة في بلدان العالم كافةً من الناحية العملية، وقد أثيرت هذه المسألة وتم مناقشتها على عده مستويات. ورغم الجهود السابقة، فإن هاتين القضيتين: الأمن الغذائي والاستدامة، لاتزال مهملة بشكل أو بأخر، وخاصة في منطقتنا العربية. حيث لا يستلزم الأمر من هذه البلدان فقط إنتاج كميات أكبر من الغذاء للتكيف بسرعة مع الطلب المتزايد بل يجب العمل على تحسين سلاسل القيمة الغذائية وتطويرها.
نرى ان التحدي الرئيس في النظم الغذائية التي تشهد تطوراً سريعاً اليوم، هو سد الهوة الناجمة عن تدهور خدمات الارشاد والتوجيه التي يقدمها القطاع العام. كما يستوجب القيام بتحليل الوضع القائم على المستوى الوطني بشكل عاجل لتحديد الاختلالات وتوجيه التدخلات وتحديد الاجراءات وتوجيه الاستراتيجيات التنموية على المستوى الوطني لتحقيق الامن الغذائي.
